تخمير البذور

تخمير البذور تجربة تجمع بين العلم والتقليد، وبين الفائدة والنكهة. فعندما تُنقع بذور مثل الكتان والشيا ودوار الشمس والقرع والسمسم في ماء مع ذرة من الملح وكمية صغيرة من الخميرة الطبيعية النشطة وتُترك لساعات، تبدأ داخلها سلسلة من التغيرات الحيوية الدقيقة تجعلها مختلفة جذريًا عما كانت عليه. في هذه المرحلة ينكسر حمض الفيتيك الموجود طبيعيًا في معظم البذور والحبوب، وهو المعروف بكونه عائقًا أمام امتصاص المعادن. ومع نشاط إنزيمات الفايتاز أثناء التخمير يتحرر الحديد والزنك والمغنيسيوم ليصبح امتصاصها أكثر سهولة، وقد أظهرت دراسات حديثة أن قدرة الجسم على الاستفادة من هذه المعادن قد تتضاعف إلى أكثر من 60% بعد التخمير. ومع تحلل بعض الكربوهيدرات المعقدة والبروتينات الصعبة الهضم يصبح تناول البذور ألطف على المعدة وأخف على الجهاز الهضمي، فلا يشعر الإنسان بالانتفاخ أو الثِقل الذي قد تسببه البذور غير المعاملة.


لكن أثر التخمير لا يقف عند حدود التغذية والهضم فحسب، بل يمتد إلى الطعم والرائحة. فخلال هذه الساعات تتولد مركبات عطرية وأحماض عضوية تمنح البذور نكهة عميقة جوزية الطابع، تضيف للخبز بعدًا حرفيًا مختلفًا، وكأن كل بذرة تروي تاريخها في لقمة واحدة. هذا الطابع الحسي يكتمل عندما يحتفظ لبّ الخبز برطوبته بفضل قدرة البذور المخمّرة على امتصاص الماء، فيظل طريًا وغنيًا حتى بعد أيام من الخَبز، بينما تظل القشرة مقرمشة كما هي. ومن جانب آخر، فإن البذور المخمّرة تتحول إلى غذاء أولي للبكتيريا النافعة في الأمعاء، إذ تغتني بالألياف الذائبة التي تشكل بيئة مثالية لتوازن الميكروبيوم ودعم المناعة.


هذه الممارسة ليست جديدة على تاريخ الإنسان، فقد استخدمتها شعوب قديمة في مصر والهند وأوروبا الوسطى لتليين البذور والحبوب وزيادة قيمتها الغذائية، ثم غابت فترة عن المخابز الصناعية الحديثة، قبل أن يعيد الخبازون الحرفيون اكتشافها مستندين إلى البحوث العلمية التي تؤكد جدواها. واليوم، يُنظر إلى تخمير البذور كخطوة ترفع الخبز من مجرد غذاء إلى وجبة متكاملة تجمع بين المتعة الحسية والفائدة الصحية.


ولمن يرغب بتجربة هذه التقنية منزليًا، يكفي أن تُنقع البذور في ضعف وزنها ماء، مع رشة ملح وملعقة صغيرة من خميرة طبيعية نشطة، وتُترك ليلة كاملة في حرارة الغرفة. وفي الصباح، تُضاف البذور المخمّرة مباشرة إلى العجين لتمنحه طعمًا وقيمة إضافية.


إنها عملية تذكّرنا بأن الزمن والاهتمام قادران على تحويل القسوة إلى ليونة، والجمود إلى حياة، تمامًا كما يهذّب التخمير قسوة البذور بالملح والوقت، فيهذّب العشق الإلهي قسوة القلب بالصبر والنور.

مقالات ذات صلة

استجابات