إتمام النعمة… يبدأ من اللقمة

سمعتُها تحدّثني عن جهازها الهضمي، كيف صار يثور عليها كلما حاولت أن تبتلع لقيماتٍ من وجبة عادية، لا يُمكث في الجسد إلا ليخرج بمعاناة يومية. كانت قد أجرت سلسلةً من عمليات التكميم وتحويل المسار وتصحيح آثارهما. لم أملك إلا أن أتمنى لها أن يرزقها الله راحة البال مع لقمةٍ هنيئة سائغة؛ إذ اعتبرتُ أن قدرتنا على الأكل والهضم بهدوء نعمة عظيمة قد يغفل كثيرون عن شكرها.
تساءلتُ مع نفسي: كيف يصل البعض إلى هذه النقطة حيث يبارز جسده بسكينٍ طبية، لا لشيء إلا لعجزٍ عن صيانة إرادته أمام الطعام؟ كيف يغدو الجسد ساحة حرب بين الشهوة والوعي؟ أليس الطعام في جوهره ونقاوته نعمةً؟ فكيف تحوّل إلى معاناة؟
هنا خطر لي قول الله تعالى في سورة المائدة ﴿اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ٣
جاءت هذه الجملة الخالدة بعد سياق حاسم، يذكر فيه الوحي الأطعمة المحرَّمة: الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذُبح على النصب، وما ارتبط بطقوسٍ شركية وخرافاتٍ وأزلامٍ باطلة. لم يكن الكلام عن “قائمة ممنوعات” فحسب، وإنما كان إعلانَ تحرير: تحريرًا للإنسان من استعباد الكهنة، ومن أغذيةٍ ملوّثة تُعكِّر جسده وروحه، ومن تقاليد غرست في داخله خوفًا ووهمًا. اكتمال الدين هنا لا يعني اكتمال “النصوص”، بل اكتمال مشروع الوعي والتحرر.
اليوم، بعد مئات السنين، عادت صور الاستعباد بوجهٍ جديد: لم يعد عبر “الذبح على النصب”، وإنما عبر مصانعَ تكدّس على موائدنا السكرَ المكرّر، والدهونَ المهدرجة، والألوانَ الصناعية، والمحسّنات الغريبة، وتعرضها علينا في إعلاناتٍ برّاقة تعِد بالمتعة الفورية. صار السوق، لا الكاهن، هو الذي يؤمّم أذواقنا، ويستعمر أمعاءنا، ويحرّك رغباتنا. ألا نشبه في ضعفنا أمام هذه الأطعمة المضلِّلة ضعفَ أهل الجاهلية وهم يستقسمون بالأزلام ليقرّروا لقمة أملٍ أو حرمان؟
وليس من الصدفة أن تسمّى هذه السورة بـ المائدة؛ فالمائدة التي نزلت من السماء كانت آيةَ رحمةٍ للحواريين مع عيسى، بسطها الله ليكون فيها طمأنينة، لا عبودية. والمائدة ما زالت ممدودة بخيرات الأرض وثمارها وغذائها الطبيعي الطاهر، ولكننا نحن الذين أعرضنا عنها، مائلين إلى ما يفسد ولا يُغذّي. حين نعود إلى المائدة الإلهية، الطازجة، البسيطة، النظيفة، فإننا نعود إلى أصل النعمة ونردّها بالشكر.
فإذا كان الدين اكتمل لحظةَ تحرير الإنسان من طقوس الخرافة، فإن وعينا الغذائي يكتمل حين نتحرر من هيمنة السوق والوجبات الصناعية، فنختار عن إرادةٍ أن نغذّي أجسادنا بما يُقيمها، وعقولنا بما يُنيرها.
ولعل قول الناس: “العقل السليم في الجسم السليم” ليس مجرد حكمة مدرسية، بل هو صدى لمقصد قرآني: لا وعي بلا صحة، ولا روح طليقة في جسد مريض مُثْقَل بالسموم.
فهل آن أن ننظر إلى كل لقمة على أنها جزء من عبادة؟ كل شربة ماءٍ نقية كأنها تلاوة شكر؟ كل وجبة طبيعية كأنها صلاةٌ صامتة؟
إن نعمة الطعام لا تُشكر إلا بالوعي، والدين — حين اكتمل — أراد أن يعلّمنا أولويات التحرر: من عبودية الطقس… إلى عبودية السوق… إلى العبودية الطوعية لله وحده.
استجابات